عدد المساهمات : 2233 تاريخ التسجيل : 26/03/2012 العمر : 28 الموقع : www.alahli.alafdal.net
موضوع: وداعا ياشهر الصيام الإثنين يونيو 18, 2012 1:08 pm
وداعا ياشهر الصيام ========== بالأمس القريب استقبلنا رمضان، والآن يُختم رمضان، وغداً يختم العام، وبعد غد يختم العمر، وبعده يبعثر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور، وتجثو الأمم لهول يوم النشور، ثم تختم الرحلة جميعها إما بجنان عالية، أو نيران حامية، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30]. قبل ثلاث جمع كانت إطلالة شهر رمضان، فاستقبلناه بالبشر، ولقيناه بالترحاب، واليوم في طرفة عين، نودعه، نودعه ولم نملأ بعد من وصاله أعيننا، ولم تشبع أنفسنا، ولم ترتوِ قلوبنا. نودعه ونحن لا زلنا نعيش في غمرة استقباله، وفرحه إطلاله. وداع ياشهر الصيام ، وداعا يا شهر القيام ، وداعا ياشهر التراويح ، وداعا يا شهر التسابيح . وداعا يا شهر الخير والبركات، والبر والحسنات، واللطف والنفحات، وداعا يا ميدان الطاعة؛ وموسم العبادة، وداعا لأيام صفت فيها النفس، وزكا بها الفؤاد، وسما بها الفكر؛ وداعا لليال نشطت فيها الأجسام، وتراصت الأقدام، وحسُن الخشوع، وعذُب الخضوع، ونُثِرَت الدموع؛ وداعا لحلاوة الإفطار بعد الصيام، والراحة بعد القيام، والري بعد العطش؛ وداعا لتلذذ بتفطير الصائمين، وإطعام الجائعين، ومعونة المعوزين؛ وداعا لأيام تعطرت فيها الأجواء بعبير الدعاء، وتزينت فيها الأرجاء بأريج الثناء.
واحزناه على نغمات القرآن الحانية وهي تداعب القلوب، وتسمو بالأرواح! واحزناه على ليال ضجت فيها الأصوات، وتعالت الدعوات! واحزناه على منظر المؤمنين الصائمين، ومشهد المعتمرين الطائفين! واحزناه على ما فرطنا في جنب الله! يا ليتنا اجتهدنا، يا ليتنا أكثرنا، يا ليتنا صبرنا، يا ليتنا ما كسلنا ولا تهاونَّا!. أيها الحبيب الراحل: كنا نشعر بالرحمة تهبط علينا، والسكينة تحفنا، والعناية تحوطنا، والولاية تحرسنا، وكأنها الملائكة تصافحنا في الطرقات، القلوب غير القلوب، والأنفس غير الأنفس، والأخلاق غير الأخلاق.
هذا كله مع شدة تقصيرنا معك، وتضييعنا لحقوقك، ومخالفتنا لقوانينك؛ فكيف لو أخلصنا في الحب، وصدقنا في الود، والتزمنا بالعهد؟ واحسرتاه على أوقات ضاعت، وليال مرت، لم تكن في رحاب الحبيب! ماذا جناه النائمون من نومهم؟ والمفرطون من تفريطهم؟ واللاهون من لهوهم؟ واللاعبون من لعبهم؟ فئام هائمة، وأنوف راغمة، وجهود خاسرة، تلك التي لم تتذوق حلاوة الصيام، وروعة القيام، ولذة القرآن: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [هود:24]. آه.. أيها الحبيب الراحل! لو نضمن لقاءنا بك مرة أخرى لهوَّنا على أنفسنا، وطيبنا خواطرنا، وأبردنا حرارة أشواقنا، وعللنا الأنفس بحلاوة اللقاء بعد مرارة الفراق، مَن لم يذق مرارة الفراق لم يدر ما حلاوة التلاقي؛ لكن الخوف أن يكون وداعنا لك وداعا لا لقاء بعده، فكم رأينا من مُحِبٍّ لك، متمن للقائك، طامع في وصالك، حال بينه وبينك الموت، ومنعه من لقائك الردى.
أيها الطائعون المغتنمون المبادرون: يا بشرى لكم! لقد سافر حبيبكم وهو عنكم راض، ولكم شاهد، وفيكم شافع، وبكم فخور؛ أيها المقصورن المفرطون المضيِّعون: يا لعظم خسارتكم! ويا لكبر مصيبتكم!.
انظروا إلى جيرانكم وإخوانكم وزملائكم الذين اجتهدوا، انظروا إلى سرور نفوسهم، ووضاءة وجوههم، وانشراح صدورهم، وفرحهم بما نالوا؛ ثم انظروا بماذا عُدتم أنتم، وماذا كسبتم؟ ذهب عنهم التعب وبقِيَتْ لهم حلاوة الطاعة، وأجر العبادة، وأنتم ذهبت عنكم حلاوة المعصية، وبقيت لكم تبعة الذنب، وجريمة التفريط، وقائمة السيئات: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:13-14].
جمعوا الحسنات، وكنزوا الطيبات، وسُيقَالُ لكم ولهم ذوقوا ما كنزتم لأنفسكم، ولكن المنادي يناديكم: أن الحقوا بالركب، وتشبثوا بالحبل، وسارعوا بالندم، وقدِّموا الاعتذار، وبادروا بالتوبة، ولا تقنطوا من رحمة الله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]؛ فبادروا بالتوبة مع ختام الشهر فإن الأعمال بالخواتيم، وتداركوا أنفسكم طالما أن في العمر بقية، وفي الزمن فسحة، والمعبود كريم، والمقصود رحيم.
بادِروا بالتودُّدِ للخالق، والتذلل للعظيم، والانطراح على أعتاب الكريم؛ اغسلوا لوثات القلوب بماء الدموع، وحرقة الندم، وزلال التوبة؛ إن مَن لم يتقطع قلبُه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفا تقطع قلبه في الآخرة إذا حقت الحقائق، وظهرت الوثائق، وحضرت الخلائق، وتقطعت العلائق، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ:40]، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]، (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106].
إن كل بني آدم خطاء، ولكن خير الخطائين التوابون؛ وإن الأعمال الجليلة، والمواسم العظيمة، تختم بالاستغفار، والتوبة للقهار، فهو سبحانه المنادي: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82]؛ وهو المنادي: "يا عبادي! إنكم تخطؤون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم" أخرجه مسلم؛ ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" أخرجه مسلم؛ ويقول أيضا: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" أخرجه مسلم.
فلنبادر بالتوبة النصوح، ولنُقْبِل على رَبِّ الملائكة والروح، فإن باب المغفرة مفتوح.