عدد المساهمات : 2233 تاريخ التسجيل : 26/03/2012 العمر : 28 الموقع : www.alahli.alafdal.net
موضوع: موسوعه اخبار العرب قبل ظهور الاسلام الأحد يونيو 10, 2012 3:02 pm
ذكر اخبار العرب
* قصة سبأ * فصل إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن. * قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر * قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة * وثوب لخنيعة ذي شناتر على ملك اليمن * خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان * خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما * سبب قصر أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة * خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن * ما آل إليه أمر الفرس باليمن * قصة الساطرون صاحب الحضر * خبر ملوك الطوائف * ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة * قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام * باب جهل العرب * خبر عدنان جد عرب الحجاز * أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان * قريش نسباً واشتقاقاً وفضلاً * خبر قصي بن كلاب o فصل: تفويض قصي أمر الوظائف لابنه عبد الدار. * ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية * ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية o حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية o شيء من أخبار عبد الله بن جدعان o امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات o أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي o بحيرا الراهب o ذكر قس بن ساعدة الإيادي o زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه
قيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتحية والإكرام، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل، وقد قدمنا أن العرب العاربة منهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وجرهم، والعماليق، وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام وفي زمانه أيضاً.
فأما العرب المستعربة: وهم عرب الحجاز فمن ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأما عرب اليمن: وهم حمير، فالمشهور أنهم من قحطان، واسمه: مهزم، قاله ابن ماكولا.
وذكروا أنهم كانوا أربعة إخوة: قحطان، وقاحط، ومقحط، وفالغ، وقحطان بن هود، وقيل: هو هود، وقيل: هود أخوه، وقيل: من ذريته، وقيل: إن قحطان من سلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق، وغيره. فقال بعضهم: هو قحطان بن الهميسع بن تيمن بن قيذر بنت ابن إسماعيل، وقيل: غير ذلك في نسبه إلى إسماعيل، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 188)
وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك، فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام:
حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن يزيد بن أبي عبيد، حدثنا سلمة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف، فقال:
((ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان)) لأحد الفريقين. فأمسكوا بأيدهم.
فقال: ((ما لكم؟)).
قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟
فقال: ((ارموا وأنا معكم كلكم)).
انفرد به البخاري، وفي بعض ألفاظه: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع ابن الأدرع)). فأمسك القوم فقال: ((ارموا وأنا معكم كلكم)).
قال البخاري وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم، كما سيأتي بيانه، وكانت الأوس والخزرج منهم، وقد قال لهم عليه الصلاة والسلام:
((ارموا بني إسماعيل)) فدل على أنهم من سلالته، وتأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب، لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل.
لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم، ليسوا من سلالة إسماعيل، وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية، وعدنانية؛ فالقحطانية: شعبان سبأ وحضرموت، والعدنانية: شعبان أيضاً ربيعة ومضر، ابنا نزار بن معد بن عدنان، والشعب الخامس وهم: قضاعة مختلف فيهم. فقيل: إنهم عدنانيون. (ج/ص: 2/ 189)
قال ابن عبد البر وعليه الأكثرون، ويروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وجبير بن مطعم، وهو اختيار الزبير بن بكار، وعمه مصعب الزبيري، وابن هشام، وقد ورد في حديث قضاعة بن معد، ولكنه لا يصح، قاله ابن عبد البر وغيره، ويقال: إنهم لن يزالوا في جاهليتهم، وصدر من الإسلام، ينتسبون إلى عدنان، فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية، وكانوا أخواله انتسبوا إلى قحطان، فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدة له:
أبلغ قضاعة في القرطاس إنهم * لولا خلائف آل الله ما عتقوا
قالت قضاعة إنا من ذوي يمن * والله يعلم ما بروا وما صدقوا
قد ادعوا والداً ما نال أمهم * قد يعلمون ولكن ذلك الفرق
وقد ذكر أبو عمرو السهيلي أيضاً من شعر العرب ما فيه إبداع في تفسير قضاعة في انتسابهم إلى اليمن، والله أعلم.
والقول الثاني أنهم من قحطان، وهو قول ابن إسحاق، والكلبي، وطائفة من أهل النسب، قال ابن إسحاق وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة صحابي له حديثان:
يا أيها الداعي ادعنا وأبشر * وكن قضاعياً ولا تنزر
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر * قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر * في الحجر المنقوش تحت المنبر
قال بعض أهل النسب: (ج/ص: 2/ 190)
هو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد بن حمير، وقال ابن لهيعة عن معروف بن سويد، عن أبي عشابة محمد بن موسى عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أما نحن من معد؟
قال: ((لا)).
قلت: فمن نحن؟
قال: ((أنتم قضاعة بن مالك بن حمير)).
قال أبو عمر بن عبد البر، ولا يختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن إلحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني، فعلى هذا قضاعة في اليمن في حمير بن سبأ.
وقد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار وغيره، من أن قضاعة امرأة من جرهم، تزوجها مالك بن حمير، فولدت له قضاعة، ثم خلف عليها معد بن عدنان وابنها صغير، وزعم بعضهم أنه كان حملاً فنسب إلى زوج أمه، كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه، والله أعلم.
وقال محمد بن سلام البصري النسابة: العرب ثلاثة جراثيم: العدنانية، والقحطانية، وقضاعة.
قيل له: فأيهما أكثر العدنانية أو القحطانية؟
فقال: ما شاءت قضاعة أن تيامنت؛ فالقحطانية أكثر، وإن تعددت، فالعدنانية أكثر. وهذا يدل على أنهم يتلومون في نسبهم، فإن صح حديث ابن لهيعة المقدم، فهو دليل على أنهم من القحطانية، والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
قال علماء النسب: يقال شعوب، ثم قبائل، ثم عمائر، ثم بطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر. والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل، وليس بعدها شيء. (ج/ص: 2/ 191)
ولنبدأ أولاً بذكر القحطانية، ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز، وهم العدنانية، وما كان من أمر الجاهلية ليكون ذلك متصلاً بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقال البخاري باب ذكر قحطان: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)).
وكذا رواه مسلم عن قتيبة، عن الدراوردي، عن ثور بن زيد به.
قال السهيلي: وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن، وأول من قيل له أنعم صباحاً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، عن جرير، حدثني راشد بن سعد المقراي، عن أبي حي، عن ذي فجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((كان هذا الأمر في حمير، فنزعه الله منهم، فجعله في قريش)) (وس ى ع و د ا ل ى هـ م) قال عبد الله: كان هذا في كتاب أبي، وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء، يعني: وسيعود إليهم.
قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، قالوا: وكان أول من سبى من العرب فسمى سبأ لذلك. وكان يقال له: الرائش، لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه.
قال السهيلي: ويقال إنه أول من تتوج.
وذكر بعضهم أنه كان مسلماً، وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله:
سيملك بعدنا ملكاً عظيماً * نبي لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك * يدينون العباد بغير ذام
(ج/ص: 2/ 192)
ويملك بعدهم منا ما ملوك * يصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبي * تقي جبينه خير الأنام
يسمى أحمداً يا ليت أني * أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه* ومن يلقاه يبلغه سلامي
حكاه ابن دحية في كتابه (التنوير) في مولد البشير النذير.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن دعلة، سمعت عبد الله بن العباس يقول:
إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو: أرجل أم امرأة أم أرض؟
قال: ((بل هو رجل، ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية: فلخم، وجذام وعاملة، وغسان)).
وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي، هو السائل عن ذلك، كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هناك، ولله الحمد
والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها، وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن، وأحدهم تُبَّع، وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم، كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك.
وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت تُبَّعاً، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس.
وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس، وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام، وقد كانوا في غبطة عظيمة، وأرزاق دارة، وثمار وزروع كثيرة، وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد، فلما بدلوا نعمة الله كفراً أحلوا قومهم دار البوار.
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبياً. وزعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي، فالله أعلم. (ج/ص: 2/ 193)
والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى إلى الضلال، وسجدوا للشمس من دون الله، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضاً، واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم، كما قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 16-17].
ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم، أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جداً، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة.
ويقال: كان أول من بناه سبأ بن يعرب، وسلط إليه سبعين وادياً يفد إليه، وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخاً في فرسخ.
وكانوا في غبطة عظيمة، وعيش رغيد، وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها؛ فتمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته.
وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث، ولا الدواب المؤذية، لصحة هوائهم، وطيب فنائهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].
وكما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 3].
فلما عبدوا غير الله، وبطروا نعمته، وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم، وطيب ما بينها من البساتين، وأمن الطرقات، سألوا أن يباعد بين أسفارهم، وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب، وطلبوا أن يبدلوا بالخير شراً، كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى: البقول، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل، فسلبوا تلك النعمة العظيمة، والحسنة العميمة، بتخريب البلاد، والشتات على وجوه العباد، كما قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}. (ج/ص: 2/ 194)
قال غير واحد: أرسل الله على أصل السد الفار، وهو الجرذ، ويقال: الخلد، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير، فلم تغن شيئاً، إذ قد حم القدر، ولم ينفع الحذر، كلا لا وزر، فلما تحكم في أصله الفساد، سقط وانهار، فسلك الماء القرار، فقطعت تلك الجداول والأنهار، وانقطعت تلك الثمار، ومادت تلك الزروع والأشجار، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار، كما قال العزيز الجبار: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ}.
قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: هو الأراك، وثمره البرير، وأثل وهو: الطرفاء، وقيل: يشبهه، وهو حطب لا ثمر له {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وذلك لأنه لما كان يثمر النبق، كان قليلاً مع أنه ذو شوك كثير، وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل: لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى.
ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي: إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا.
وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} وذلك أنهم لما هلكت أموالهم، وخربت بلادهم، احتاجوا أن يرتجلوا منها، وينتقلوا عنها، فتفرقوا في غور البلاد ونجدها، أيدي سبأ شَذَرَ مَذَرَ.
فنزلت طوائف منهم الحجاز، ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة، وكان من أمرهم ما سنذكره، ومنهم المدينة المنورة اليوم، فكانوا أول من سكنها. ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فخالفوا الأوس والخزرج، وأقاموا عندهم، وكان من أمرهم ما سنذكره.
ونزلت طائفة أخرى منهم الشام، وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم: غسان، وعاملة، وبهراء، ولخم، وجذام، وتنوخ، وتغلب، وغيرهم، وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما.
قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة، وهو ميمون بن قيس: (ج/ص: 2/ 195)
وفي ذاك للمؤتسي أسوة * ومأرم عفي عليها العرم
رخام بنته لهم حمير * إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزرع وأعنانها * على سعة ماءهم إذ قسم
فصاروا أيادي لا يقدرو * ن على شرب طفل إذا ما فطم
وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة، أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي، ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن ازد بن زيد بن مهع بن عمرو بن عريب بن يشجب ابن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، قاله ابن هشام.
قال ابن إسحاق: وكان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذاً يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء، فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن، فكاد قومه، فأمر اصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه، أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به.
فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله، وانتقل في ولده وولد ولده.
وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك، مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالاً، ففي ذلك قال عباس بن مرداس:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد
قال: فارتحلوا عنهم، فتفرقوا في البلاد، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مراً، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان. (ج/ص: 2/ 196)
ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه، وفي ذلك أنزل الله هذه الآيات. وقد روي عن السدي قريب من هذا.
وعن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهناً. وقال غيره: كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة، فأخبرت بقرب هلاك بلادهم، وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم، ففعلوا ما فعلوا، والله أعلم. وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة، فيما رواه ابن أبي حاتم في التفسير.
إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن.
وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم، بل أقام أكثرهم بها، وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد، وهو مقتضى الحديث المتقدم عن ابن عباس: أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن، بل إنما تشاءم منهم أربعة، وبقي باليمن ستة: وهم مذحج، وكندة، وأنمار، والأشعريون، وأنمار هو: أبو خثعم، وبجيلة، وحمير.
فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن، واستمر فيهم الملك والتبايعة حتى، سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبة أميريه: أبرهة، وأرياط نحواً من سبعين سنة.
ثم استرجعه سيف ابن ذي يزن الحميري، وكان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليل، كما سنذكره مفصلاً قريباً إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.
ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن علياً وخالد بن الوليد، ثم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وكانوا يدعون إلى الله تعالى، ويبينون لهم الحجج، ثم تغلب على اليمن الأسود العنسي، وأخرج نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فلما قُتل الأسود، استقرت اليد الإسلامية عليها في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كما سنبين ذلك بعد البعثة إن شاء الله تعالى.
قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر
المتقدم ذكره اللخمي، كذا ذكره ابن إسحاق، وقال السهيلي: ونساب اليمن تقول نصر بن ربيعة ابن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم. (ج/ص: 2/ 197)
وقال الزبير بن بكار: ربيعة بن نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم، ولخم: أخو جذام، وسمي لخماً لأنه لخم أخاه، أي: لطمه، فعضه الآخر في يده فجذمها، فسمي جذاماً.
وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة، وخبره مع شق وسطيح الكاهنين، وإنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما سطيح: فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان.
وأما شق: فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بن عبقر بن أنمار بن نزار، ومنهم من يقول: أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نابت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
ويقال: إن سطيحاً كان لا أعضاء له، وإنما كان مثل السطيحة، ووجهه في صدره، وكان إذا غضب انتفخ وجلس. وكان شق نصف إنسان. ويقال: إن خالد بن عبد الله بن القسري كان سلالته.
وذكر السهيلي أنهما وُلدا في يوم واحد، وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية. ويقال: إنها تفلت في فم كل منهما، فورث الكهانة عنها، وهي امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره، والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هائلة هالته، وفظع بها، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً ولا منجماً من أهل مملكته، إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، فقالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها.
فقال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا، فليبعث إلى شق وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه. (ج/ص: 2/ 198)
فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها.
فقال: أفعل.
رأيت حُمَمَة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة.
فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟
قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال له الملك: يا سطيح إن هذا لنا لغائط موجع، فمتى هو كائن: أفي زماني أم بعده؟
فقال: لا وأبيك، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين.
قال: أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع؟
قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين.
قال: ومن بلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟
قال: يليهم أرم بن ذي يزن يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحداً باليمن.
قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟
قال: بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه؟
قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قِبَلِ العلي.
قال: وممن هذا النبي؟
قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر؟
قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
قال: أحق ما تخبرني.
قال: نعم، والشفق والغسق والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
قال: ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان. قال: نعم رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحاً قال: وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة. وقال شق: وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها؟
فقال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.
فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟
قال: لا بل بعده بزمان. ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان.
قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ (ج/ص: 2/ 199)
قال: غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج عليهم من بيت ذي يزن فلا يترك منهم أحداً باليمن.
قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟
قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
قال: وما يوم الفصل؟
قال: يوم يجزى فيه الولات، يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.
قال: أحق ما تقول؟
قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض.
قال ابن إسحاق: فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة.
قال ابن إسحاق: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، يعني: الذي كان نائباً على الحيرة لملوك الأكاسرة، وكانت العرب تفد إليه وتمتدحه، وهذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس.
وقد روى ابن إسحاق أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جيء بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان؟ فقال: من أشلاء قنص بن معد بن عدنان. قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة (وكيف أراد غزو البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه).
قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب، وتبان أسعد تبع الآخر ابن كلكيركب بن زيد، وزيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير ابن أنس بن الهميسع بن العربحج والعربحج، هو حميبر بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان. (ج/ص: 2/ 200)
قال عبد الملك بن هشام: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ابن إسحاق: وتبان أسعد أبو كرب، هو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر.
وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة، وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها، وخلَّف بين أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها.
فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول: عامر بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.
وقال ابن هشام: عمرو بن طلحة هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار، وطلة أمه، وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية.
قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقاً له فضربه بمنجلة فقتله. وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم. فاقتتلوا: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكهام.
وحكى ابن إسحاق عن الأنصار: أن تبعاً إنما كان حنقه على اليهود، أنهم منعوهم منه.
قال السهيلي: ويقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه، على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها، واستطالوا عليهم، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فبينا تبع على ذلك من قتالهم، إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة: عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالوا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك جل العقوبة.
فقال لهما: ولم ذلك؟ (ج/ص: 2/ 201)
قالا: هي مهاجر نبي، يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، وأتبعهما على دينهما.
قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة، وهي طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وامج، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن بزار بن معد بن عدنان. فقالوا له: أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثراً غفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة، قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده.
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك، وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك. فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك، وهلاك جندك، ما نعلم بيتاً لله عز وجل، اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكن وليهلكن من معك جميعاً.
قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به، وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له، حتى تخرج من عنده.
قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجهلم.
ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس، ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل.
وأُري في المنام أن يكسوا البيت، فكساء الخصف، ثم أُري في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء المعافر، ثم أُري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء الملاء والوصائل.
وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دماً، ولا ميتة، ولا مئلاتاً وهي المحايض، وجعل له باباً ومفتاحاً، ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب، تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وتنهاه عن البغي بمكة، وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها:
أبني لا تظلم بمكة * لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بني * ولا يغرنك الغرور
أبني من يظلم بمكة * يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه * ويلج بخديه السعير
أبني قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما * بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها * والعصم تامن في ثبير
ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير
وأذل ربي ملكه * فيها فأوفى بالنذور
يمشي إليها حافياً * بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها * لحم المهارى والجزور
يسقيهم العسل المصفى * والرحيض من الشعير
(ج/ص: 2/ 203)
والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور
والملك في أقصى البلاد * وفي الأعاجم والخزور
فاسمع إذا حدثت وأفهم * كيف عاقبة الأمور
قال ابن إسحاق: ثم خرج تبع متوجهاً إلى اليمن، بمن معه من الجنود وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخلوا فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث: أن تبعاً لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم. قالوا: تحاكمنا إلى النار؟ قال: نعم.
قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه.
فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فزجرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير.
وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، تعرق جباههما ولم تضرهما، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني محدث أن الحبرين، ومن خرج من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، فدنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وهي تنقص عنهما، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، والله أعلم أي ذلك كان. (ج/ص: 2/ 204)
قال ابن إسحاق: وكان رئام بيتاً لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون فيه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به، فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلباً أسود فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا تُبعاً فإنه قد كان أسلم)).
قال السهيلي: وروى معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة)).
قال السهيلي: وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراً:
شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل هم
قال: ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار، ويحفظونه بينهم، وكان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.
قال السهيلي: وذكر ابن أبي الدنيا في كتب القبور أن قبراً حفر بصنعاء، فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه: هذا قبر لميس وحنى ابنتي تبع ماتتا، وهما تشهدان أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد، وهو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو، فسميت من يومئذ اليمامة. (ج/ص: 2/ 205)
قال ابن إسحاق: فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخاً له يقال له: عمرو وكان معه في جيشه، فقالوا له: أقتل أخاك حسان ونملكك علينا، وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم.
فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري، فإنه نهى عمراً عن ذلك فلم يقبل منه، فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان:
ألا من يشتري سهراً بنوم * سعيد من يبيت قرير عين
فأما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الإله لذي رعين
ثم استودعهما عمراً. فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر، فسأل الأطباء والحذاق من الكهان والعرافين عما به، فقيل له: إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغياً إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر، فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه.
فلما خلص إلى ذي رعين قال له: إن لي عندك براءة، قال: وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعته إليك فأخرجه، فإذا فيه البيتان فتركه، ورأى أنه قد نصحه، وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا.